//]]> -->

بحث هذه المدونة الإلكترونية

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

التسميات

الإبلاغ عن إساءة الاستخدام

الثلاثاء، 19 يونيو 2018

الباحث القانوني | ملخص حول المفاوضات العقدية - الجزء الأول




تعد المفاوضات Négociation/pourparlers précontractuels ، أو المرحلة السابقة على إبرام العقد، من أهم مراحله وأخطرها على الإطلاق، لما تحويه من تحديد لأهم ومعظم الإلتزامات وحقوق طرفي العقد، بما ينشأ عنها من مشكلات قانونية عديدة، مازالت تثير عديد الإشكالات، سواء منها ما تعلق بالإخلال بالإلتزامات السابق تحديدها في هذه المرحلة، أو ما يتعلق منها بنطاق ونوع المسؤولية المدنية التي تنشأ على الطرف المتسبب في حالة عدم بلوغ الغاية من المفاوضات وهي إبرام العقد المنشود. وأهم المشكلات لاسيما في عقود التجارة الدولية هي قطع المفاوضات بسوء نية أو دون سبب جدي أو دون مبرر مشروع وطبيعة المسؤولية التي تترتب على القطع وما هو مداها.
المرحلة السابقة على التعاقد هي مرحلة استكشافية ملؤها العجائب والتناقضات Mystères et paradoxes، لما تثيره من مناقشة ومساومة، وعليه تثير هذه المرحلة نوعين من الصعوبات: صعوبات تتعلق بتمييزها وتحديدها، وصعوبات أخرى مرتبطة بالإحاطة الشاملة بالنظام القانوني لمرحلة المفاوضات.
فكلما كان الإعداد للعقد جيداً بكل حرية ودراسة وطمأنينة وعقلانية، كلما جاء مضمون العقد متوازن ومتعادل ومتكافىء، لا يشوبه نقص أو غموض أو إيهام ما يكفل تنفيذه دون منازعات وعلى العكس.
والعقد لا يكون ملزم إلا متى كان مفيداً، شريطة أن يكون عادلاً ومتكافىء بين المتعاقدين.
المشرع رغم تعديل القانون المدني بموجب قانون 05-10 مؤرخ في 20 جوان 2005، وكذا قانون 07-05 مؤرخ في 13 مايو 2007 لم يهتم بهذه المرحلة، وأغفل تنظيم الإلتزام قبل التعاقدي، كما سكت عن حماية المتعاقد في المرحلة السابقة عن التعاقد تاركاً الأمر بيد القضاء الذي مازال يعتبر مرحلة التفاوض مجرد عمل قانوني غير ملزم (قرار: م.ع/ غ.م، في 24 مايو 2000 وقرار: 26 مارس 1990)، (قرار مجلس الدولة/غ 4: 15 جويلية 2002)، لا يرتب عليه في ذاته أي أثر قانوني، ولا ينشىء على عاتق الطرفين أي التزام، وليس أمام المضرور سوى اللجوء إلى أحكام المسؤولية التقصيرية (م 124 ق.م)، وهي مهمة صعبة إذ قد يفشل المضرور من إثبات توافر عناصر هذه المسؤولية لاسيما إثبات الخطأ قبل التعاقدي.
*والقانون المدني أشار لأبرز صور المرحلة التمهيدية وذكر منها خاصةً: الاتفاق المبدئي على المسائل الجوهرية للعقد ( م65 ق.م)، والوعد بالتعاقد (م 72)، والعربون (م 72 مكرر)، وهي الصور التي يعقبها غالباً إبرام العقد النهائي الذي يحلّ محلها وتكون العبرة بين الطرفين بالشروط والبنود الواردة في العقد النهائي، ولو اختلف عن الشروط الواردة في العقود التمهيدية أو التحضيرية السابقة على إبرام العقد، على أنه يشترط لإحداث هذا الإختلاف اتفاق كل من الطرفين على التعديل (م 106 ق.م).
ونظراً لخطورة عقد الزواج وأهميته فقد نظم المشرع هذه المرحلة (الخطبة والوعد بالزواج م 5، 6 ق الأسرة).
                                            المبحث الأول:
الحدود القانونية بين مرحلة التفاوض وإبرام العقد.
التفاوض ينتهي قانوناً في الوقت الذي يصدر فيه إيجاب، فهنا تكون المفاوضات حققت غرضها وهو توصيل الطرفين لاتفاق على جميع المسائل الجوهرية أو الأساسية للعقد المراد إبرامه، فتنتهي مرحلة المفاوضات وتبدأ مرحلة إبرام العقد، حيث يقوم أحد الطرفين بتوجيه إيجاب بالعقد يتضمن الشروط التي انتهى إليها فإذا قبل الطرف الآخر دون قيد أو شرط انعقد العقد نهائياً (م 59 ق.م).
فإذا احتوى الإيجاب على العناصر الأساسية للعقد المراد إبرامه، يتم العقد المنشود بمجرد اقتران القبول به ولا يلزم أن يتضمن المسائل التفصيلية إذ يرجع بخصوصها للقواعد المكملة ( م65 ق.م).
*فالإيجاب هو الحد الفاصل بين مرحلة المفاوضات على العقد ومرحلة إبرامه، وحيث وجد الإيجاب انتهى التفاوض، وحيث انعدم ظل الطرفان في مرحلة المفاوضات أو المباحثات بشأن إبرام العقد.
والإيجاب الناشىء عن المفاوضات هو من صنع الطرفين فقد ساهم كل منهما في تحديد شروطه وبلورة نقاطه الأساسية، وفق أهدافهما ومصالحهما المشتركة، مما سيسمح بتحديد النطاق الموضوعي والزمني الذي تسوده المفاوضات العقدية.
المطلب الأول:
التفرقة بين الإيجاب والدعوة إلى التفاوض.
الإيجاب هو الحد الفاصل بين التفاوض على العقد وإبرام العقد، لذا يجب التفرقة بين الإيجاب والدعوة للتفاوض لما لها من أهمية من الناحية القانونية، لأن الداعي إلى التفاوض لا يلتزم بإبرام العقد مباشرة مع أول من يستجيب لدعوته وإنما فقط بالتفاوض معه بحسن نية وأمانة تمهيداً لإبرام العقد الذي ينشدانه.
أ-التمييز بين الإيجاب الملزم والدعوة إلى التفاوض.
كثيراً ما يصعب التفريق بينهما لأن الإيجاب الجازم والبات إذا صادفه قبول مطابق إنعقد العقد ( م59 ق.م).
والقاعدة في القانون المدني أن للموجب أن يعدل عن إيجابه مادام لم يقترن به القبول، ما لم يقترن الإيجاب بمدة محددة يلزم بها الموجب، فإن عدل قبلها عدّ متعسفاً وتنهض مسؤوليته المدنية، فإذا انتهت المدة للقبول سواء كان الأجل صريح أو ضمني يسقط الإيجاب. وبمفهوم المخالفة للمادة 63 فالإيجاب إذا لم يقترن بميعاد محدد لا يعتبر ملزماً مما يتيح للموجب العدول أو الرجوع عن إيجابه طالما لم يقترن به قبول، ما يمكن أن يتفق مع مبدأ سلطان الإرادة وقاعدة حرية إبرام العقود (أنظر ص 17).
فالإيجاب غير ملزم إلا إذا اقترن بمهلة اتفق عليها صراحة أو ضمناً (م 63 ق.م)، وإلا فهو يسقط بانفضاض مجلس العقد أو بالكف عن الانشغال بالتعاقد بين حاضرين ( م64/02 ق.م)، أما بين غائبين فقوته الملزمة أمر ضمني يتحدد بالمدة اللازمة لوصول الإيجاب إلى علم الموجه إليه، وللقاضي سلطة تقديرها بحسب ظروف الحال وطبيعة المعاملة والعرف الجاري (م 67، 68 ق.م).
أما الدعوة للتفاوض فليس لها هذا الأثر القانوني ويجوز العدول عنها دون أن يترتب عن هذا العدول مسؤولية، إلا إذا اقترن بالعدول خطأ مستقل عن مجرد العدول ترتب عليه ضرر جاز للمضرور طلب التعويض عنه.
*فما يميز الإيجاب عن الدعوة للتفاوض هو وجود أو عدم وجود النية القاطعة في الارتباط بالعرض والكشف عن هذه النية هي مسألة واقع تختلف باختلاف الظروف يختص بها قاضي الموضوع.
ب-النتائج المترتبة على التمييز.
ولها أهمية قانونية وهي:
1-لا تعتبر الدعوة للتفاوض إيجاب بالعقد بل هي مجرد رغبة في التعاقد؛
2-تعتبر الدعوة للتفاوض عمل مادي غير ملزم، لا يترتب عليها بذاتها أثر قانوني، وكل ما يدخل في هذا الإطار يعتبر مجرد تحضير أو تمهيد للتعاقد ولا يعد إيجاب من الناحية القانونية؛
3-الشخص المكلف بالتفاوض أي الوسيط في العرض أو المفاوضة، لا يكون نائباً بل يكون مجرد وسيط، لأن النيابة لا تكون إلا في التصرفات القانونية (م 73، 74 ق.م). فالسمسار الذي يقوم بالتقريب بين عروض الطرفين في العملية التفاوضية كي يمهد للعقد النهائي لا يعتبر نائباً؛
4-وصول المفاوضات لمرحلة الإيجاب البات (أو الجازم) مسالة واقع تتخذ شكلها حسب عناصر الاتفاق، ويعود الأمر فيها لتقدير قاضي الموضوع؛
5-لا يترتب على قطع المفاوضات في المرحلة السابقة على الإيجاب نشوء المسؤولية العقدية لعدم وجود العقد وخروجها عن النطاق العقدي أصلاً؛
6-إذا اقترن قطع المفاوضات بخطأ نتج عنه ضرر للطرف الآخر يستحق وفق المادة 124 تعويض عن الضرر الذي أصابه بسبب هذا الخطأ، كالمصاريف التي أنفقها والمجهودات التي تكبدها أو ضياع صفقة رابحة، فمن قطع المفاوضات بسوء نية أو سبب جدي يسأل مسؤولية تقصيرية.
*فالإيجاب أو العرض الملزم الذي يعدّ حداً فاصلاً بين مرحلة المفاوضات على العقد ومرحلة إبرام العقد، هو الإيجاب الملزم الذي يشتمل على العناصر الجوهرية الأساسية للعقد المراد إبرامه (الموضوعية والشخصية)، بحيث ينعقد العقد لمجرد صدور قبول مطابق من الموجب له.



المطلب الثاني:
المشكلات التي يثيرها الفصل.
المفاوضات عادة تأخذ شكل دعوة إلى التعاقد، لا يتكون منها إيجاب وتكون بعيدة عن تحديد شروط العقد. وهي في الحقيقة دعوة للدخول في مفاوضات أو مباحثات يوجهها من يرغب في التعاقد إلى شخص معيّن أو إلى الجمهور عبر مختلف وسائل الإعلام.
فلا مشكلة إذا صادف هذا الإيجاب قبولاً مطابقاً لمضمونه من الموجب له، فيقوم العقد ويلتزم الطرفان به (م 59 ق.م)، وإذا رفضه من وجه له يحول ذلك دون إبرام العقد وتبوء المفاوضات بالفشل وينتهي الأمر. ولا يسأل من وجه له العرض عن الرفض ولو كان صريحاً كتعديل الإيجاب أو التقدم بإيجاب مقابل، مهما كانت البواعث، ولا يتحمل تبعة ما لامتناعه عن التعاقد، ويسقط الإيجاب في جميع الأحوال إذا رفضه الموجه إليه أو تخلف الشرط الذي عليه الإيجاب.
وهو ما سارت عليه المحكمة العليا، فرفض التعاقد يشكل من حيث المبدأ حقاً لكل من تلقى عرضاً، يتماشى مع مبدأ سلطان الإرادة وحرية التعاقد، فمن وجه له العرض يكون في الأساس حراً في الرفض، ولا يتحمل تبعة ما لامتناعه عن التعاقد، إلا إذا كان متعسفاً في استعماله أو خرج في هذا الاستعمال عن حدود حسن النية (107/124 مكرر ق.م). فيجوز من وجه إليه إيجاب أن يرفضه ما لم يكن قد دعى إليه، فلا يجوز له في هذه الحالة أن يرفض التعاقد إلا إذا استند إلى أسباب مشروعة.
وأخيراً فإن نظرية الفقيه الفرنسي دمولامب Demolombe القديمة، وناد بهاو ورمس Worms وهي تمثل المدرسة الألمانية المهجورة، وكذا الفقيه سيغل Siegl في النمسا، والتي قالت أن العرض يشكل عملاً قانونياً منفرداً، يعبّر عن إرادة جازمة، مما يلزم العارض بالإبقاء على عرضه مهلة معينة، وبعدم نقض قراره خلالها، وبهذا الرأي صدرت بعض القرارات القديمة.
الحقيقة أن العرض الذي يتضمن العناصر الأساسية لتكوين العقد المنشود يبقى رغم ذلك مجرد اقتراح إرادي (ينطوي على مبادرة) صادر عن شخص وموجه لآخر بغية التعاقد، غير أن تحديد مدة زمنية واضحة تحدد الإطار الزمني لهذا الاقتراح هي التي تلزم العارض قانونياً بعدم سحبه أو تغيير مضمونه أثناء المهلة المحددة، وإلا تحمل المسؤولية المدنية عن تعسفه، وخير تعويض هنا هو إلزامه بالتعاقد إذا صدر القبول ضمن المدة المحددة.
*فلا يكون للعارض أن يفاجىء الطرف الذي استجاب لعرضه بالرجوع عنه دون مبرر شرعي، بل يبقى ملزم بالإبقاء عليه (م 63 ق.م).



المشكلات.
المشكلات التي تثور نتيجة الفصل بين مرحلة المفاوضات على العقد، ومرحلة إبرام العقد منها:
أولاً: إذا خرج الطرفان من تفاوضهما بإيجاب بات ومحدد، ولكن إذا وجهه أحدهما للآخر تقدم بعرض من جانبه يتضمن إضافة بالزيادة أو النقصان أو التعديل، كأن يطلب خفض الثمن أو استبعاد شرط  أو أجل الوفاء، وحسم المشرع هذه المسألة حيث اعتبر قبول الإيجاب مع التعديل بمثابة رفض يتضمن إيجاب جديد ( م66 ق.م).
وعليه فقد تتضمن المفاوضات سلسلة من الإيجاب المتلاحق، ويعتبر الايجاب الجديد مجرد عرض تفاوضي حتى يصدر إيجاب جازم وكامل يتم قبوله قبول مطابق فينعقد العقد نهائياً.
ثانياً: العرض الجديد في المادة 66 ق.م هو بمثابة رفض للايجاب يتضمن في الحقيقة إيجاب جديد، فنكون أمام احتمالين:
الاحتمال الأول: أن يتم قبول هذا الايجاب الجديد من الموجب الأول بقبول مطابق فينعقد العقد (م59 ق.م).
الاحتمال الثاني: أن يفتح باب التفاوض والنقاش حول مضمون الايجاب الجديد ما يؤدي لسقوط الإيجاب الأول وتحول الإيجاب الجديد إلى دعوة للتفاوض موجه للموجب الأول ( م 66 ق.م)، ما يؤدي بالطرفين لدخول دائرة المفاوضات أو المباحثات على العقد، ما يسمح بانتقال صفة الموجب أثناء التفاوض من طرف لآخر إلى أن ترسى على أحدهما، ممن التأمت على يديه جميع العناصر الجوهرية اللازمة لقيام العقد المرجو ( م 65، 71 ق.م).
والمتعاقدان بالخيار إلى آخر المجلس ( م64 /02 ق.م)، فلو رجع الموجب عن إيجابه أو صدر من أحدهما قول يدل على الاعتراض يبطل الإيجاب ولا عبرة بالقبول الواقع بعد ذلك، وقوله (ص): "إذا تبايعا الرجلان فهما بالخيار ما لم يتفرقا".
ثالثاً: إذا علق الطرفان إبرام العقد: ولو كان رضائياً على إفراغه في محرر مكتوب والتوقيع عليه نهائياً، فالطرفان يظلان في دائرة المفاوضات حتى لحظة التوقيع النهائي على محرر العقد، ومن ثم، فإذا عدل أحدهما قبل التوقيع ولو بلحظات يكون قد قطع المفاوضات الجارية على العقد. وقد أشارت المادة 71/02 ق.م أنه إذا اشترط القانون لتمام العقد استيفاء شكل معين فهذا الشكل يطبق على الاتفاق المتضمن الوعد بالتعاقد، وإلا كان باطلاً.




صور الإطار التعاقدي للتفاوض.
وله ثلاثة صور: إما ينصب على إبرام عقد معين اتفقا عليه من حيث المبدأ (وهو عقد المفاوضة)، وقد يكون اتفاق التفاوض في صورة بند أو شرط مدرج في عقد أصلي بين الطرفين، وأخيراً قد يكون الاتفاق على العناصر الجوهرية للعقد المتفاوض عليه، فإذا كان التفاوض على العناصر الثانوية أو التفصيلية المنصوص عليها في عقد سابق ( م 65 ق.م)، فالتفاوض على هذه العناصر المؤجلة يخضع لأحكام المسؤولية العقدية، لأن وصول الطرفين لاتفاق نهائي حول العناصر الأساسية محل التفاوض ينشىء على عاتقهما التزام تعاقدي على التفاوض على العناصر المؤجلة، ما يسمى في بعض القوانين Punctation المتعلق بـ"الاتفاق الجزئي" الذي نجده في التعاقد متعدد المراحل Formation successive.
*وصيانة العقد وفق أصول الصياغة التعاقدية بصورة واضحة ومفهومة، وطبق أغراض العقد المرجو ومضمونه يجنب راغبي التعاقد مشكلات تفسير العقد في المرحلة اللاحقة على إبرامه (مرحلة التنفيذ)، ويتحقق هذا برصد كل خطوة يتم الاتفاق عليها عند التفاوض، باتفاق جزئي أو مرحلي بصياغة صحيحة، ما يوفر الجدية والأمان لراغبي التعاقد بحصولهم على ما يثبت التقدم في المفاوضات.
موقف القانون المدني الجزائري.
لم ينظم المشرع أحكام المرحلة السابقة على التعاقد، تاركاً الأمر للقضاء والفقه مكتفياً بالنص أن العقد لا ينعقد إلا بتبادل التعبير عن الإيجاب والقبول وارتباطهما ( م 59 ق.م). وأنه لابد من الاتفاق على جميع المسائل الجوهرية التي تفاوضا عليها للقول بانعقاد العقد ( م65، 71 ق.م)، كما نصت المادة 107 ق.م أنه يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبحسن نية، وكان يحسن به تنظيم هذه المرحلة والنص على واجب الأمانة والنزاهة وحسن النية.
*يفرض على المهني الإلتزام بإعلام المستهلك بطريقة واضحة قبل التعاقد L’obligation d’information ou de renseignement قبل التعاقد. وأشار المشرع لإلزامية إعلام المستهلك على شكل مبدأ عام في المواد: 17، 18 من القانون 09-03 مؤرخ في 25 فيفري 2009 المتعلق بحماية المستهلك وقمع الغش.
حماية المتعاقد في المرحلة السابقة على التعاقد.
المبدأ في القانون الجزائري هو حرية المتعاقد في التفاوض، بقصد الوصول إلى بلورة وتحديد مضمون العقد المراد إبرامه، بكل جدية وصدق وأمانة، إذ يجوز لكل متفاوض في المرحلة قبل التعاقدية أن يضع حد للمفاوضات، دون التقيّد بأي ارتباط عقدي، ورغم هذا فإن المشرع يحمي المتعاقد من التدليس في المرحلة السابقة للتعاقد إذا أثبت أن وسائل الدعاية والإعلان أو الطرق الإحتيالية كانت هي الدافع وراء التعاقد ولولاها لما أقدم عليها ( م86 ق.م).
كذلك فالتعاقد عن طريق المزايدة أو المناقصة ( م 69 ق.م)، قد يمثل انتقاص من حرية المتعاقد في التفاوض والأمر يزداد في عقود الإذعان ( م 70 ق.م)، ما يقلل من مقدار الحرية التي يتمتع بها المتعاقد عند التفاوض، ويضيق من مبدأ سلطان الإرادة قبل التعاقدي.
ونوضحها كما يلي:
يحمي  المشرع المتعاقد العادي من التدليس أو التغرير والخداع في مرحلة التفاوض لاسيما في وقتنا مع اتساع وسائل الدعاية والإعلان وانتشار الطرق الاحتيالية. فالقانون يفرض على المتعاقدين التزامات الأمانة وحسن النية Bonne foi في مرحلة التفاوض، كما يجوز وفق المادة 86 ق.م إبطال العقد للتدليس إذا كانت الحيل التي يلجأ إليها أحد المتعاقدين من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد.
إن الإلتجاء للحيلة والخداع للتمويه والتضليل أو استعمال الغش عن طريق السكوت العمدي La réticence أو التصريح الكاذب، لدفع المتعاقد إلى التعاقد هي من عيوب الرضا ( م86، 87 ق.م)، التي تجيز طلب الإبطال.
فإذا تكاملت شروط التدليس (باستعمال الطرق الاحتيالية وكانت هي الدافع للتعاقد وصدورها عن المتعاقد الآخر)، كان العقد قابل للابطال لمصلحة الطرف المدلس عليه ( م 86 ق.م)، ويقع عبء إثبات الحيل أو الخداع وفق القواعد العامة على من يدعيه ( م 323 ق.م)، ويمكن أن يقتصر على طلب التعويض، باعتبار التدليس عمل غير مشروع ( م124 ق.م).
*والكذب في حد ذاته لا ينهض دعامة كافية للتدليس أو التغرير على رغم تفشيه في أيامنا ما لم يرتبط بكتمان الحقيقة أو إخفائها (وهو السكوت العمدي)، أو بالكذب المفضوح كالإعلان على غير الواقع بانتحال أحسن الأوصاف للتأثير على إرادة المتعاقد وهو ما يسمى بالكذب الذي يتجاوز حدود المألوف في التعامل Dolus malus ، حين يكون الشخص مكلف بإعطاء معلومات أو بيانات خاصة، بأمور معينة يعلق عليها الطرف الآخر أهمية بالغة أو قصوى في عملية التعاقد، كشركة التأمين.
*وقانون العقوبات يجرم الممارسات التجارية التدليسية، وكذا الممارسات التجارية غير النزيهة (المواد: 24، 37، 38 من قانون 04-02 مؤرخ في 23 جوان 2004 المتعلق بممارسة الأنشطة التجارية).
ب-التعاقد عن طريق المزايدة أو المناقصة.
نصت المادة 69 ق.م أنه لا يتم العقد في المزايدات إلا برسو المزاد، ويسقط بمزاد أعلى ولو كان باطلاً، فطرح الصفقة موضوع التعاقد للمناقصة أو للمزايدة لا تشكل إيجاب بل هي مجرد دعوة للتفاوض، وافتتاح المزايدة على الثمن والتقدم بالعطاء هو الإيجاب، ويسقط العطاء بعطاء أفضل يزيد عليه ولو كان هذا العطاء الجديد باطلاً.
فالتقدم بالعطاء هو إيجاب لازم لأن ظروف الحال على أن من تقدم بعطاء أراد أن يتقيد به ولا يرجع عنه، ويبقى مقيد بعطائه إلى أن يسقط هذا العطاء.
-أما القبول في هذه العقود، فهو يتم بإرساء المزاد ممن يتولاه فيعقد العقد لحظة رسو المزاد لا من لحظة المصادقة، إلا إذا اشترط الخيار وهي أحكام تقلل من حرية كل متزايد يرغب في إبرام العقد المحتمل، وفيها اعتداء على القواعد المتعلقة بالإيجاب والقبول.
وأشارت المحكمة العليا (غ.م في 29 جانفي 2003) أن البيع بالمزاد العلني ينشىء وضعية نهائية لا يمكن الرجوع عنها، ولا ضمان في البيوع القضائية أو الإدارية التي تتم بالمزاد ( م 385 ق.م)، فلا يمكن الإدعاء بالغش أو التدليس لأن المشتري بإمكانه معاينة المحل قبل المشاركة في المزاد، غير أن عدم اتباع الإجراءات المنصوص عليها من حيث الإشهار والعمومية هو مخالفة واضحة للنصوص القانونية ولا يعدّ قرار رسو المزاد حكم قضائي بل قرار ولائي في شكل حكم قضائي يجيز لصاحب المصلحة حق التظلم منه بدعوى البطلان أمام المحكمة التي وقع فيها البيع بالمزاد.
وقد قرّر المشرع حماية قانونية جنائية لحرية المزايدات (م 175 ق.ع من القانون 06-03 مؤرخ في 20 ديسمبر 2006): "كل من عرقل حرية المزايدات أو المناقصات أو تعرض لها أو أخلّ بها بطريق التعدي أو العنف أو التهديد سواء قبلها أو أثناءها يعاقب بالحبس من شهر إلى 6 أشهر وغرامة من 20.000 إلى 40.000 دج".
عقود الإذعان.
شروط الإذعان موضوعة مسبقاً من أحد المتعاقدين الذي ينفرد بوضع بنوده ولا يملك المتعاقد الآخر مساومتها أو مناقشتها، أو على الأقل مناقشة الشروط الرئيسية، بحيث لا يكون له إلا أن يقبل هذه الشروط كلها أو يرفضها كلها، وهو بذلك يذعن (أي يرضخ وينظم) لمشيئة الطرف القوي، لأن المسألة تتعلق بسلعة ضرورية أو خدمة أساسية لا غنى عنها.
-ويكون الإيجاب في عقود الإذعان عن طريق عرض السلعة أو الخدمة على الجمهور، وهو عرض بات ودائم يعلم به الكافة وبشروطه الموضوعة مقدماً، وتكون في شكل نماذج تعتمد من قبل جميع الأطراف.
-أما القبول فهو يقتصر على مجرد التسليم بالشروط المقرّرة التي وضعها الموجب ولا يقبل المناقشة فيها، فلا يستطيع محتكر الخدمة أو السلعة (احتكار قانوني أو فعلي) التحلل من العقد برفض التعاقد مع شخص قابل لهذه الشروط وإلا قامت مسؤوليته العقدية.
*ورغم مخاطر هذه العقود لانتقاصها الواضح من حرية المتعاقد في التفاوض ومناقشة بنود وشروط العقد المرجو فقد اعتبرها المشرع عقود حقيقية ( م 70 ق.م)، وأن لا أثر له في قيام التراضي ووجود العقد، الذي يخضع للقواعد العامة التي تنضم بقية العقود.
وعليه إذا تم العقد بطريق الإذعان وكان تضمن شروط تعسفية أو جائرة ما يعرف بشرط الأسد Clauses abusives ou léonine جاز للقاضي وفق م 110 ق.م التدخل قصد التوفيق بين مصالح الأطراف المعنية، ورفع الشدة عن الطرف الضعيف (أو المذعن)، وهذا بتعديل أو إلغاء بعض هذه الشروط بما يتفق مع العدالة والقانون، ويقع باطل كل اتفاق على خلاف ذلك.
*وللتخفيف من صرامة القوة الملزمة للعقد، وإنصاف الطرف المذعن فإن تفسير العبارات الغامضة أو المبهمة في عقود الإذعان، يجب أن يكون لمصلحة الطرف الضعيف سواء كان دائن أو مدين ( م 112/ 02 ق.م).
*وعقود الإذعان بأوصافها وأمثالها يماثلها في الفقه الإسلامي مسائل بيع المضطر والاحتكار والتسعير الجبري، فإذا انطوى العقد على ظلم أو إجحاف بالطرف المذعن بأن يتضمن العقد شروط تعسفية أو جائرة ضارة به أو كان الثمن غير عادل، جاز للحاكم التدخل لحماية الأطراف الضعيفة بالتسعير الجبري العادل، بما يحقق العدل فيه.
*وعلى كل حال فالطرف المذعن هو مضطر للقبول، فرضاؤه موجود ولكن مفروض عليه، لحاجته للخدمة أو للسلعة محل التعاقد، فتنعدم إرادة المتعاقدين في التفاوض والمناقشة بشأن العقد المراد إبرامه. وهو ضرب من الإكراه الذي يفرضه الطرف الأقوى ليس هو المعروف في عيوب الإرادة بل هو إكراه متصل بعوامل اقتصادية أكثر منه متصلاً بعوامل قانونية أو نفسية، وعليه رفضت المحاكم في أوربا اعتبار العقود النموذجية أو النمطية تصرفات شبه لائحية، أيا كان واضع هذه العقود، كما أنها تقوم بإلغاء الشروط التعسفية التي تحتويها عقود الإذعان من خلال مراقبة كيفية إبرام العقد وكذا تنفيذه.
إن تدخل الدولة المعاصرة في وضع السعر الإجباري ومراقبة القواعد الأساسية والشروط في عقود النقل والتأمين والإيجار والمرافق العامة والعمل، وخاصة في مجالات حماية المستهلك، سواء في الاقتصاد الحر أو الإقتصاد الموجه أدى لظهور عقود موجهة Contrats dirigés ، وبهذا أضحى متعين في بعض الأطراف وفق شروط موضوعة مسبقاً لتحقيق المصلحة العامة (في حماية المستهلك)، فاتسعت دائرة النظام العام الاقتصادي إلى درجة ملموسة.
ففي العقود الموجهة، لا يلعب الرضا دور حاسم في مناقشة شروط العقد فيطبق طرفيه نظام رسمي Statut officiel مفروض عليهم، بمقتضى سلطان الدولة للتدخل في العلاقات القانونية، وهذا لحماية الطرف الضعيف، وإبطال الشروط التعسفية (كتنظيم شروط العمل، وإبطال شرط عدم المسؤولية في عقود النقل، وتنظيم عقود التأمين وعقود البيع التي تحدد فيها الدولة السعر الإجباري لبعض السلع...).
         والحقيقة أنه كلما قلّ الاحتكار وزادت المنافسة الحرة بين مقدمي السلع والخدمات محل عقد الإذعان كانت هناك فرصة أكبر أمام المتعاقد لاختيار من بين هؤلاء ما يراه أقل حدة أو شدة بشأن بنود العقد، ما يدفعهم للتخفيف من طابع الإذعان، أي بالتوفيق بين مصالح الأطراف المعنية في العقود المطروحة للجمهور.

من كتاب الأستاذ بلحاج العربي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لـ الباحث القانوني-Carrefour _droit ©