المبحث الثاني: مضمون القوة الملزمة للعقد[1].
للعقد قوة ملزمة تساوي
القانون، فالعقد شريعة المتعاقدين (106، 107 ق.م)، ويجب على كل متعاقد تنفيذ
الالتزامات التعاقدية التي ترتبت في ذمته، كما يلتزم بتنفيذ القانون تماماً، وإلا
كان مسؤولاً عن عدم تنفيذها أو التأخر فيه ( 160، 164، 176، 180، 181، 182 ق.م)،
وعليه فإن تحديد موضوع العقد أو مضمونه أمر مهم لمعرفة مقصود الطرفين، ولتحديد
مضمون الالتزامات التعاقدية الناشئة عن العقد، ومدى التزام المتعاقدين بتنفيذ
العقد وحدود القوة الملزمة له.
المطلب الأول:
تفسير العقد L’interprétation du
contrat
1-مفهوم
تفسير العقد: التنفيذ قد يتطلب تفسير
العقد، وتفسير العقد هو ضبط الالتزامات التعاقدية، أي تحديد ما انصرفت إليه
الإرادة المشتركة الحقيقية للمتعاقدين، واستعمل القانون "التأويل" في
المادتين: 111، 112 ق.م. والتأويل مصطلح مقبول وهو الكشف عن المقصود بنصوص العقد،
وبيان ما هو غامض منها لاستخلاص النية المشتركة للمتعاقدين، فيجب على القاضي الذي
عرض عليه النزاع التأكد أولاً من توافر أركان انعقاد العقد وشروط صحته، ثم ثانياً
البحث في معرفة مضمون الالتزام العقدي الذي يجب تنفيذه، وتحديد نطاق الالتزامات
التي تعهدت بها الأطراف، ويتطلب هذا من الناحية العملية البحث في حقيقة النزاع
وتوظيف الأدوات والأساليب القانونية لمعرفة قصد المتعاقدين، أي النية المشتركة
الحقيقية للمتعاقدين، بتفسير بنود العقد وشروطه وتكييفه، وسد فجواته وثغراته متى
تطلب الأمر لفهم مضمون العقد.
وتفسير العقد وتحديد
مضمونه من عمل القاضي، فهو الذي يهيمن على هذه العملية الذهنية القانونية الدقيقة،
خصوصاً حالة النزاع بين المتعاقدين حول بند من البنود المدرجة في صلب الاتفاق.
غير أن المشرع لم يترك
للقاضي كامل الحرية في شأن تفسير العقود، بل ألزمه اتباع قواعد معينة لضمان عدم
خروجه على مهمته الأصلية لتعديل العقد، وإن كان للتفسير إشكاليات وصعوبات متعددة
تواجه قضاة الموضوع، فإن له أهمية كبرى رغمها، عند اختلاف الأطراف لفض النزاع
بينهما، بالوقوف على الإرادة المشتركة الحقيقية والغرض المقصود منها، ومن ثم تحديد
نطاق الالتزامات التي يتقيد بها الأطراف.
والتفسير القضائي في
مجال العقود ساعد على إضافة تطبيقات لالتزامات جديدة لم تفكر فيها الأطراف:
كالتزام حسن النية أثناء التفاوض، والالتزام بالإعلام وكذا الالتزام بالإدلاء
بالبيانات والالتزام بالنصح والمشورة، وواجب ضمان سلامة المسافر والإلتزام بضمان
السرية وغيرها.
ومن المادتين 111، 112
ق.م نصادف ثلاث حالات في التفسير:
أ-حالة
وضوح عبارة العقد.
تنص المادة 111/1 ق.م
أنه: " إذا كانت عبارة العقد واضحة، فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق تأويلها
للتعرف على إرادة المتعاقدين"، فإذا كانت عبارات العقد واضحة وجب التقيد بها
قانوناً، ولزم أن تعد تعبيراً صادقاً عن إرادتهما المشتركة الحقيقية بعيداً عن كل
تأويل أو انحراف، وهو الأصل في القانون من أن العقد الواضح العبارة لا يحتاج إلى
تفسير، وينظر إلى العقد كوحدة واحدة لا إلى كل جملة أو عبارة في العقد بمفردها،
فإن عبارات العقد وحدة متكاملة الأحكام، متصلة الأجزاء، وعلى قضاة الموضوع تطبيق
الاتفاقات المبرمة بين الأطراف وليس لهم قانوناً تغيير شروطها أو بنودها متى كانت
واضحة بينة.
هذا القول يقوم على
افتراض يقبل العكس فإذا ثبت أن العبارة لا تعبر عن المقصود رغم وضوحها، يمكن
العدول عن المعنى الظاهر إلى المعنى المقصود الحقيقي، شريطة أن يبين القاضي أسباب
مقبولة لهذا العدول، لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ
والمباني، ويخضع القاضي في هذا لرقابة المحكمة العليا.
*وغلطات القلم والحساب
لا تؤثر في صحة العقد ولكن يجب تصحيحها ( 84 ق.م).
-والمشرع حسب المادة
111/01 ق.م يمنع على القاضي الانحراف عن العبارة الواضحة في العقد على أساس افتراض
أن الإرادة الظاهرة في هذه الحالة هي الإرادة الباطنة المعبرة عن النية المشتركة
وهي قاعدة جوهرية يقتضيها استقرار المعاملات. وهو ما سارت عليه المحكمة العليا منذ
الثمانينات، لأنه إذا كانت العبارة الواردة في العقد واضحة، يجب على القاضي أن يقف
عند معناها الظاهر، إذ لا اجتهاد مع عبارة واضحة، فلا يجوز الانحراف عنها عن طريق
تفسيرها بالتعرف على إرادة المتعاقدين، لأن المفروض أن العبارة تعبر عن الإرادة،
وأن العبرة هي بإرادة المتعاقدين، ففي حالة وضوح الإرادة يلتزم القاضي بالعبارة
الصريحة الواضحة، دون أن ينحرف إلى معنى آخر يغاير ظاهرها.
ب-حالة
غموض عبارة العقد.
بأن كانت غامضة أو
متناقضة أو تحمل في جزئياتها أو جملتها أكثر من معنى أو مبهمة أو كانت الألفاظ
المستعملة لا يتأتى التوفيق بينها وبين الغرض الواضح الذي قصد عند تحرير بنود
العقد، بأن كانت الألفاظ غير معبرة عن جوهر الاتفاق الذي حصل بين الطرفين، أي غير
معبرة عن النية المشتركة للمتعاقدين لكل وضوح، تعين هنا على القاضي أن يلجأ غلى
تفسيرها، أي تأويلها حتى يزيل الغموض بأن يبحث في الإرادة المشتركة للمتعاقدين.
وقد نصت المادة 111/2
أنه: " إذا كان هناك محل لتأويل العقد، فيجب البحث عن النية المشتركة
للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، مع الاستهداء في ذلك بطبيعة
التعامل، وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف الجاري
في المعاملات"، فيجب على القاضي تفسير العقد بالبحث عن النية المشتركة
للمتعاقدين، وكشف الإرادة المشتركة للمتعاقدين لأن العقد هو توافق إرادتين لا
الإرادة الفردية لكل منهما، دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، بل يعتد بطبيعة
التعامل، وبالغرض الذي يظهر أن المتعاقدين قد قصداه وبما يقضي به عرف التعامل
والعرف الجاري، من تبادل الثقة والأمانة الواجب توافرها بين المتعاقدين، كما أن
المفاوضات السابقة على إبرام العقد، وظروف التعاقد وملابساته، قد تساعد على الكشف
عن عباراته الغامضة أو المتناقضة وكذا نية الطرفين المشتركة.
فإذا كانت الإرادة
المشتركة للمتعاقدين هي الإرادة الممكن التعرف عليها، وهي مسألة باطنية نفسية بحتة
معقدة، وذات صفة شخصية، فإنه يتم الكشف عنها وفقاً للمادة 111/2 ق.م بوسائل مادية،
وتقدر تقدير موضوعي للوصول إلى الإرادة الحقيقية للطرفين وهي الإرادة التي يتكون
منها العقد، على أن هذه الوسائل الخارجية والتي تشمل: طبيعة التعامل، والأمانة
والثقة، والعرف الجاري في المعاملات ( 111/2)، لم ترد على سبيل الحصر وإنما هي
بمثابة نصائح موضوعية يسترشد بها القاضي، فيستعين بها لتفسير العبارات الغامضة وله
اللجوء إلى غيرها كقواعد العدالة والقواعد الفقهية الكلية.
فإذا أخذ القاضي عن
تفسير العقد بالإرادة الظاهرة فإنه لا يكون ملزم من الناحية القانونية بأن يتحسس
الإرادة الباطنة الكامنة في نفسية المتعاقد، بل يقف عند المظهر المادي الخارجي
للتعبير عن الإرادة فيفسره تفسيراً اجتماعياً لا نفسياً، مستنداً في ذلك إلى طبيعة
المعاملة ولأحكام القانون والعرف الجاري وإلى المألوف في التعامل.
*ودور القاضي في إزالة
الغموض عن عبارات العقد يستوجب ألا يقوم باستبدال إرادتها بإرادة يتصورها شخصياً،
ولا يعتد قانوناً بالإرادة التي تقوم على الغش والخداع والاحتيال التي قد تكون هي
النية المشتركة للمتعاقدين، كما أن التفسير لا يرد على العقد الباطل وإنما ينصب
على العقد الصحيح.
*ففي حال تحقق الغموض
في العقد يتعين على القاضي استخلاص النية المشتركة للمتعاقدين، من خلال تحديد نطاق
العقد ومضمونه، وكذا مستلزمات العقد وفقاً للقانون والعرف والعدالة وطبيعة
الالتزام. ومن أجل ذلك يقف القاضي عند الصيغ الواردة في العقد ويحللها تحليل
موضوعي ليستخلص منها المعاني السائغة المقبولة التي يستدل بها عن قصد المتعاقدين
الحقيقي، دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، بل يرجح المعنى الأكثر انطباقاً
على روح العقد والقصد الذي توخاه المتعاقدين عند إبرام العقد، فإرادة المتعاقدين
هي المعوّل عليها في العقد وفق مبدأ سلطان الإرادة في مجال التفسير، لذا وجب على
القاضي البحث عنها والأخذ بحكمها ولو أدى الأمر إلى ترك المعنى الحرفي للألفاظ،
وعند التفسير لا تؤخذ كل فقرة أو شرط منفصل بل يجب النظر إليه ككل.
*وعلماء الفقه يعملون
بالإرادة الظاهرة التي اطمأن إليها كل من المتعاقدين في تعامله مع الآخر، فالمعاني
الظاهرة هي إرادة المتعاقدين المشتركة، كما أنهم وضعوا عدة قواعد كلية أصولية
لتفسير العقد يمكن للقاضي الاسترشاد بها عند تفسير الصيغ والعبارات الواردة في
العقد وتحليلها تحليل موضوعي، ليستخلص منها المعاني السائغة المقبولة، ما يسميه
الفقه المدني المعاصر بالوسائل الداخلية أو معايير التفسير ومنها:
1-"الأصل في
العقد رضا المتعاقدين": وما التزماه في التعاقد، و"الأصل أن عبارة العقد
واضحة"، فلا يجوز للقاضي بحجة تفسير العقد أن ينحرف عن المعنى الظاهر والواضح
للعبارة الواردة فيه؛
2-"العبرة في
العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني": وعبارات العقد مجتمعة يفسر
بعضها بعضاً، والعبرة عند اختلاف المعاني بالمعنى الأكثر انطباق على روح العقد
المقصود منه؛
3-"الأصل في
الكلام الحقيقة فلا يجوز حمل اللفظ على المجاز": إلا إذا تعذر حمله على
المعنى الحقيقي فيصار إلى المجاز؛
4-"لا عبرة في
الدلالة في مقابلة التصريح": فلو تعارض المفهوم صراحة على المفهوم ضمناً قدم
الأول على الثاني؛
5-"ترك الحقيقة
بدلالة العادة"؛
6-" العادة محكمة
عامة كانت أو خاصة"؛
7-"إعمال الكلام
خير من إهماله"؛ فإذا احتمل اللفظ معنيين رجح الذي يجعل العقد ينتج أثراً على
الذي لا يجعله كذلك؛
8-"ذكر بعض ما لا
يتجزأ كذكره كله"؛
9-"إذا سقط الأصل
سقط الفرع"، و"الساقط في حكم المعدوم"؛
10-"المطلق يجري
على إطلاقه" ما لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة؛
11-"المعروف بين
التجار كالمشروط بينهم".
ج-حالة
الشك في التعرف على الإرادة المشتركة.
إذا اكتنف الغموض
والإبهام عبارات العقد، وتعذر على القاضي التعرف على الإرادة المشتركة للمتعاقدين،
رغم إعمال قواعد التفسير السابقة، تعين عليه في هذه الحالة الأخذ بقواعد العدالة
وحسن النية والقواعد الكلية، ومن هذه القواعد ما نصت عليه م 112/01 ق.م: يفسر الشك
في عبارة العقد الغامضة لمصلحة المدين Le doute s’interprète au profit du
débiteur، إنطلاقاً من أصل ثابت وهو "براءة الذمة"، حيث يقوم
الدليل القاطع أنه مدين (323 ق.م)، بالإضافة لكونه الطرف الأجدر بالحماية، لأنه
الجانب الضعيف في العقد.
وحسب المادة 112/02
ق.م فإنه في عقود الإذعان يتعين تفسير الشك لمصلحة الطرف المذعَن دائناً كان أو
مديناً، لأنه الطرف الضعيف اقتصادياً، فالمفروض أن الطرف الآخر القوي هو من يستقل
بتحرير العقد وبنوده فإذا كانت عبارات أو شروط غامضة في عقد هو صانعه، وجب ألا
يفيد من غموض نص تسبب فيه، بما يضر بمصلحة الطرف المذعن؛
" كما يفسر الشك
في العقود الاستهلاكية الغامضة غير المتوازنة لصالح المستهلك حماية له، باعتبار
المحترف هو الطرف القوي ولديه المعلومات الكافية، وكذلك في عقد العمل لمصلحة
العامل، وكذا في العقود النموذجية إذا تضمنت شروط غامضة أو تعسفية أو شروط الإعفاء
من المسؤولية أو خالفت مبدأ التساوي في صيغة النماذج المطروحة على الكافة"
حسب الأستاذ بلحاج العربي.
فالمفروض أن المتعاقد
الأقوى، يتوفر له من الوسائل ما يمكنه أن يفرض على المتعاقد الآخر عند التعاقد
شروط واضحة صريحة وبينة، فإن لم يفعل ذلك أخذ بخطئه أو تقصيره باعتباره المتسبب في
الغموض.
-وإذا تم العقد بطريق
الإذعان وتضمن شروط تعسفية جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو يعفي الطرف المذعن
منها، وفقاً لما تقضي به قواعد العدالة، ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك حماية
للمذعن ( م 70، 110، 112/2 ق.م).
وفي الفقه الاسلامي
"اليقين لا يزول بالشك" لأن "الأصل براءة الذمة" و"بقاء
ما كان على ما كان"، فإذا كان هناك شك في مديونية المدين استصحب براءة الذمة،
فاليقين أنه بريء الذمة، ولا يزال هذا اليقين بالشك، وفسر الشك لمصلحته، حتى يقيم
من يدعي الدين الإثبات على أن له ديناً في ذمته، وما كان في معناه شك لا ينبني
عليه التنازل، فإذا دعت الضرورة لتأويل النص، جاز التيسير في شدته ولا يكون
التأويل داعي لزيادة التضييق أبداً.
*وتحديد معنى الشك
ومتى يوجد من مسائل القانون، التي تخضع لرقابة المحكمة العليا.
3-التكييف.
La
qualification du contrat
هو إعطاؤه وصف قانوني صحيح،
لتحديد القواعد القانونية التي تحكم هذا الوصف، فهو العملية القانونية التي يبتغي
القاضي من ورائها إضفاء الوصف القانوني الصحيح على التصرف الذي صدر من المتعاقدين
انطلاقاً من مضمون العقد والغاية التي يهدف إليها المتعاقدان عند إبرام العقد،
وتكييف العقد هو خطوة أولى تسبق حتى التفسير، فإذا خلص القاضي من التكييف والتفسير
دخل في مرحلة تحديد نطاق العقد، وبيان ما هو من مستلزماته.
والوصف هو عمل قانوني بحت من صميم مهمة القاضي، يقوم به على
ضوء ما ستخلصه من عبارات العقد وتفسيره لإرادة المتعاقدين المشتركة.
والقاعدة في التكييف
أنه ليست العبرة بالوصف الذي يصبغه المتعاقدان على العقد، إما عن جهل أو تعمد أو
غلط لإخفاء غرض غير مشروع، وإنما العبرة بالهدف الحقيقي الذي توخاه الأطراف وقت
إبرام العقد، أي بالغرض العملي الذي قصد إليه الطرفان من تعاقدهما، والذي ستخلصه
القاضي من عبارات العقد وطبيعة الالتزامات، وبكافة القواعد والملابسات التي تستنتج
من تفسير العملية.
والعبرة هي بالتكييف
القانوني الصحيح لوقائع النزاع الذي يعطيه القاضي لموضوع العقد وليس للتكييف الذي
يعتقده أو يقترحه أطراف هذا العقد أو أحدهم، معناه أن عدم إشارة الأطراف في
الاتفاق إلى التزام معين، يوكل الأمر لقاضي الموضوع الذي له السلطة التقديرية في
تفسير العلاقة التعاقدية.
*والتكييف هو من
المسائل القانونية يخضع فيه القاضي إلى رقابة المحكمة العليا، فالعقد هو قانون
المتعاقدين ولقاضي الموضوع سلطة التعرف على ما قصده المتعاقدان وإنزال حكم القانون
على العقد هو مسألة قانون تخضع لرقابة المحكمة العليا، على اعتبار أن الخطأ في
تطبيق نصوص العقد، وكذا الخطأ في تأويل نصوصه، والخطأ في فهم المقصود بالقاعدة
القانونية واجبة الإعمال يعد خطأ في تطبيق القانون يخضع لرقابة المحكمة العليا.
*والقاضي لا يخضع
للرقابة في فهم الواقع لاستظهار نية المتعاقدين المشتركة ومقصودهم الحقيقي من
وقائع الدعوى وظروفها، بشرط الالتزام بقواعد التفسير والاستناد إلى ما ورد في
الدعوى من وقائع ومستندات وأدلة إثبات صادرة من ذوي الشأن، وعدم انحرافه عن عبارات
العقد الواضحة مادامت دالة على الإرادة الباطنة، غير أنه يخضع للرقابة فيما يتعلق
بالتكييف القانوني للعقد ذلك أن الخطأ في التكييف هو من الأسباب التي تستوجب
النقض.
*وعملية التكييف قد
تطرح إشكالات لاسيما في العقود غير المسماة، أو العقد المركب أو المختلط، باعتبار
أن تحديد الوصف القانوني الصحيح الذي يتفق مع ماهيته، ومع النتيجة التي ارتضاها
الأطراف، وتعيين الأحكام المطبقة عليه، تحتاج من القاضي إلى بحث وتعمق لإضفاء
الوصف القانوني الحقيقي على العملية محل التعاقد.
4-وسائل
مراقبة تفسير العقود.
تفرض المحكمة العليا
رقابتها فيما يتعلق بتفسير العقد وعمل القاضي في التكييف بوسائل مختلفة على ما
يعتبر من مسائل القانون، نذكر منها خصوصاً:
أ-لا يجوز الانحراف عن
عبارات العقد الواضحة ( م 111/01 ق.م)؛
ب-إذا كان هناك محل
لتفسير العبارات غير الواضحة في العقد، وجب البحث عن الإرادة المشتركة للمتعاقدين،
دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، وبنود العقد تكمل وتفسر بعضها البعض، ضمن
سياق العقد ككل في مجمله ( م 111/02 ق.م)؛
ج-في حالة الشك في
معنى العبارة الغامضة يفسر الشك في مصلحة المدين ( م 112/01 ق.م)، ولا يجوز أن
يكون في عقود الإذعان ضاراً بمصلحة الطرف المذعن (112/02 ق.م)؛
د-عند الأخذ بتفسير
معين وجب على القاضي ذكر الأسباب السائغة التي يستند إليها وردها إلى الثابت من
وقائع الدعوى ومستنداتها وأوراقها، لأن الوقائع يعتمد عليها في استخلاص إرادة
المتعاقدين يجب أن تكون مستقاة من مصادر موجودة وغير متناقضة لما هو ثابت في
الدعوى وظروفها؛
ه-مراقبة تكييف العقد
وتحديد وصفه القانوني الصحيح لأن بيان طبيعة العقد والأحكام المطبقة عليه من مسائل
القانون يخضع فيها للرقابة، أما مسائل الواقع فيما للقاضي من سلطة تقديرية في
البحث عن إرادة المتعاقدين معتمداً على وقائع ووثائق الدعوى لا تخضع للرقابة بشأن
حسن تطبيق الطرق المعتمدة في التأويل ( 111، 112 ق.م) والتي وصفها المشرع.
المطلب الثاني:
تحديد نطاق العقد Le contenu du contrat
أ-معنى
تحديد نطاق العقد:
بعمليتي التفسير والتكييف يتحدد الوصف القانوني الصحيح لمضمون الرابطة العقدية، أي
مضمون العقد، بما فيه من الالتزامات التي تترتب عليه في ذمة كل من المتعاقدين،
وبيان ما هو من مستلزماته وتحديد الأحكام التي يخضع لها، ويتم تحديد نطاق العقد
والالتزامات المتولدة عنه: أولاً على أساس ما ارتضاه الطرفان بالفعل أي الإرادة
المشتركة للمتعاقدين، وثانياً ما يعتبر القانون في قواعده المكملة والمفسرة أنهما
ارتضياه حكماً بهدف استكمال هذا النطاق وتحديده.
وتنص المادة 107 ق.م
أنه: " يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبحسن نية، ولا يقتصر العقد على
التزام المتعاقد بما ورد فيه فحسب، بل يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً
للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام".
ب-وسائل
استكمال العقد.
يرجع القاضي في شأن
استكمال نطاق العقد وتحديده ما يعرف "تكميل العقد" Intégration
du contrat إلى طبيعة الالتزام ولأحكام القانون والعرف والعدالة، وهي
الموجهات العامة التي أشار إليها المشرع في المادة 65 ق.م لإعمال سلطته التقديرية،
والمقصود من التكميل هنا هو استكمال ما لم يصرح به في العقد لتنظيمه وتحديد مضمونه
ولسد النقص أو الفجوات أو الغموض، باعتبار أن العقد قد تم على كل حال، أي أنه
يساهم في صنعه، وليس المقصود من التكميل هنا أن يزيد في التزامات المتعاقدين ما يتعارض
مع القاعدة في المادة 106 ق.م؛
وأول ما يعتبره
القانون مكمل لإرادة المتعاقدين هي القواعد المكملة أو المفسرة عند عدم وجود اتفاق
على مخالفة حكمها، وإن سكتا عما يخالفها اعتبرت جزءاً من العقد، وكذا ما يحتويه
العرف من عناصر مكملة لإرادة المتعاقدين، فالقاضي يملك تكملة أي عقد مسمى ضمن هذه
القواعد المكملة (صمت إرادة المتعاقدين عن تنظيمها صراحة أو ضمناً)، كما أنه
يستطيع تكملة أي عقد غير مسمى بالاستعانة بالقواعد المكملة الخاصة بأقرب العقود
المسماة إليه. ومع ذلك ما نص عليه المشرع بخصوص مكان وزمان تسليم المبيع، ومكان
وزمان الوفاء وغيرها باعتبارها لا تتعلق
بالنظام العام يجوز للأطراف الاتفاق على ما يخالفها ( 281، 282، 283 ق.م).
وكاعتبار الملحقات
والتوابع من مشمولات العقد حتى ولو لم تكن منصوصاً عليها في صلب العقد.
ج-حدود
عملية تكميل العقد:
يجب على القاضي تكميل العقد وفقاً للعرف وما جرت به الأعراف المحلية في المسائل
المدنية والتجارية لتكملة مضمون الالتزام، وتحديد ما يعتبر من مستلزماته إذا لم
تكن مخالفة للنظام العام والأخلاق الحميدة، فإنه يضاف للعقد الشروط المألوفة في
التعاقد التي جرت العادة بإدراجها ولو لم يدرجها الأطراف فعلاً.
*فيستلهم القاضي
"فكرة العدالة" من طبيعة الالتزام ذاته كفرض الالتزام بالسلامة على
الناقل.
وأهم تطبيق لقواعد
العدالة هو ما تعلق بنظرية الظروف الطارئة أو الحوادث الاستثنائية التي من شأنها
التخفيف على المدين، إذا صار الالتزام مرهقاً له ( 107/03 ق.م)، والسلطة التقديرية
للقاضي تزداد سعة حينما يلجأ إل قواعد العدالة لتحديد نطاق العقد، لأن القاضي في
مثل هذه الأحوال هو الذي يخلق المعيار الذي يستخدمه في إعمال سلطته التقديرية سواء
كان معيار شخصي أو موضوعي.
وما دام أن تحديد
مضمون العقد يتعلق بالآثار القانونية التي تترتب عن العقد فإنه يعتبر مسألة قانون
تخضع لرقابة المحكمة العليا، إذا كان القاضي استعان بذلك بأحكام القانون أو العرف
أو طبيعة التعامل، فإذا زاد القاضي التزاماً ما كان يصح أن يزيده كان سبباً للنقض،
أما إذا لجأ إلى قواعد العدالة فلا تعقيب على حكمه لأن ما يتعلق بالعدالة من مسائل
الموضوع لا مسائل القانون.
المطلب الثالث:
حدود القوة الملزمة للعقد.
يقصد بالقوة الملزمة
للعقد إحترام القانون الذي نشأ عنه، وتنفيذ ما يترتب عنه من الالتزامات بحسن نية
وفق ما يقتضيه مضمونه الذي تحدد على النحو السابق ( 106، 107/02 ق.م)، وهذه
القاعدة يرد عليها استثنائين فيما يخص القاض: عقود الاذعان (110 ق.م)، والظروف
الطارئة ( 107/03).
المبدأ العام: العقد شريعة المتعاقدين.
تنص المادة 106 ق.م
أن: " العقد شريعة المتعاقدين، فلا يجوز نقضه ولا تعديله إلا باتفاق الطرفين
أو للأسباب التي يقررها القانون.".
فالعقد هو القانون
الاتفاق الذي الذي يلتزم به المتعاقدين، فهو يقوم مقام القانون في تنظيم العلاقات
العقدية، ويطبقه القاضي عليهما كما يطبق القانون، فلا يجوز نقضه أو تعديله إلا
باتفاق آخر، فالإرادة المشتركة التي أنشأت العقد، هي وحدها التي تنهيه أو تعدله.
فالأصل العام في
القانون أنه لا يجوز لأحد طرفي العقد أن يستقل بنقضه أو تعديله، ولا يجوز للقاضي
أن يتولى إنشاء العقود عن عاقديها، إنما يقتصر عمله قانوناً على تفسير مضمونها
وفقاً لنية هؤلاء، وطبق هذا المبدأ العام يجب على كل طرف أن ينفذ التزاماته وفقاً لمضمون
العقد، بتنفيذ جميع ما اشتمل عليه مع مراعاة حسن النية، مادام العقد نشأ صحيحاً
ملزماً، وهذا بالتعاون المستمر بين الطرفين أثناء التنفيذ، ومن مقتضيات حسن النية
أن يكون تنفيذ الالتزام بأفضل وسيلة وأحسنها من طرف المدين، وألا يتعسف في استعمال
حقه.
ومبدأ العقد شريعة
المتعاقدين Pacta
Sunt Servanda في القانون الروماني يقوم على أساس أخلاقي وهو احترام العهد، وفق
مبدأ حسن النية Judicia
bonae fidei وحرفية التنفيذ Judicia
Stricti ، وعلى اعتبار اقتصادي آخر هو استقرار المعاملات بوجوب تنفيذ
العقد بطريقة تتفق مع قواعد الأمانة والثقة وفقاً لما قصده المتعاقدان معا، فمن
المادة 106 ق.م لا يملك أحد المتعاقدين أو حتى القاضي نقض العقد أو تعديله لأن
العقد ثمرة اتفاق بين إرادتين مشتركتين فلا تستطيع إرادة واحدة أن تعفي منه أو
تعدل فيه، وفق مبدأ سلطان الإرادة بالوقوف عند التزامات العقد وشروطه وعدم الخروج
عنها، كما أن قواعد العدالة تقتضي عدم تدخل القاضي في قانون العقد بنقضه أو
تعديله.
غير أنه يجيز القانون
في بعض العقود لأي من المتعاقدين أن يستقلاً بنقض العقد، كما في الوكالة (587، 588
ق.م)، الوديعة ( 594 ق.م)، وكذا العقود التي لم تحدد لها مدة كالشركة ( 440 ق.م)،
والإيجار ( 469 مكرر1 /4 ق.م)، وكذا الهبة ( 202 ق.أ).
وهناك حالات طارئة أو
استثنائية يجيز القانون فيها للقاضي لاعتبارات تتعلق بالعدالة أن يعدل العقد بشرط
عدم الانتقاص من نطاق العقد أو الزيادة في التزامات المتعاقدين، ومن أمثلتها:
-المادة 184/2 ق.م التي تخول القاضي سلطة
تخفيض الشرط الجزائي إذا كان مبالغاً فيه؛
-المادة 107/03 ق.م التي تعطي القاضي سلطة
رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول في حالة الحوادث الطارئة؛
-المادة 110 ق.م التي تمنح القاضي سلطة
تعديل الشروط التعسفية في عقد الإذعان والإعفاء منها؛
-المادة 119/2 و210 ق.م التي تخول القاضي
منح أجل معقول للمدين المعسر وهي نظرة الميسرة، بسبب ظروف استثنائية قاهرة تستدعي
تخفيف قسوة القانون عليه بشرط ألا يلحق الدائن من جراء ذلك ضرر جسيم.
الاستثناء الأول: عقود الإذعان.
تنص المادة 110 ق.م أنه: " إذا تم
العقد بطريقة الإذعان وكان قد تضمن شروط تعسفية جاز للقاضي أن يعدل هذه الشروط أو
أن يعفي الطرف المذعن منها، وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة، ويقع باطلاً كل اتفاق
على خلاف ذلك"، فللقاضي المدني السلطة التقديرية أن يعفي الطرف المذعن الضعيف
من الشروط الجائزة أو التعسفية فيعدله أو يلغيه كلياً وفقاً لأحكام المادة 110
ق.م. طبقاً لما تقتضيه قواعد العدالة والإنصاف Les règles de l’équité من ضرورة حماية الطرف
المذعن بوسائل شتى في ظل المبادىء القانونية العامة.
فإذا كشف القاضي بحسب تقديره شروطاً تعسفية
في عقد الإذعان فله أن يعدله بما يزيل أثر هذا التعسف، ورسم له المشرع ما تقتضيه
مبادىء العدالة وهي تضع في يد القاضي سلطة تقديرية واسعة لحماية المستهلك من
الشروط التعسفية، وكذا التجاوزات التي قد تفرضها عليه الشركات الإحتكارية من جراء
استغلال الوضعية الاقتصادية المهيمنة لها، ومن صيغة المادة 110 ق.م فالأمر وجوبي
ولا يجوز الاتفاق على ما يخالفه.
الاستثناء الثاني: نظرية الظروف الطارئة.
وتنص المادة 107/03 ق.م أنه: "إذا طرأت
حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام
التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلاً صار مرهقاً للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز
للقاضي تبعاً للظروف وبعد مراعاة لمصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد
المعقول ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك". ومقتضى المادة أن فكرة الظروف
الاستثنائية أو الطارئة تفرض وجود عقود يتراخى فيها التنفيذ إلى أجل أو إلى آجال
كعقد التوريد أو عقد بيع شيء مستقبل وعند حلول أجل التنفيذ تكون الظروف الاقتصادية
قد تغيرت بسبب حادث طارىء عام لم يكن متوقعاً مما يؤدي إلى فقدان التوازن
الاقتصادي بين الالتزامات الناشئة عن العقد في ذمة طرفيه، وهو الأمر الذي يجيز
للقاضي أن يتدخل ليوزع تبعة هذا الحادث على عاتق الطرفين، ويرد الالتزام المرهق
إلى الحد المعقول أي المألوف.
فإذا طرأت ظروف
استثنائية غير متوقعة من شأنها أن تؤثر في التوازن الاقتصادي للعقد L’équilibre
contractuel يجوز تعديل العقد أو نقضه باتفاق الطرفين ( م 106 ق.م). كما يجوز
للقاضي التدخل لإعادة التوازن العقدي في حالة اختلال توازنه لحادث طارىء أو
استثنائي (107/03 ق.م)، وهذا لا يؤدي إلى إهدار القوة الملزمة للعقد بل يؤدي في
الحقيقة إلى إيجاد فرصة لإنقاذه إذا لم يصبح تنفيذ الالتزام مستحيلاً.
الأصل أن العقد شريعة
المتعاقدين، ولا أثر للظروف الطارئة على وجوب تنفيذ الالتزام، فما دام أن الحادث
الطارىء لم يجعل الالتزام مستحيل التنفيذ، الأمر الذي كان من شأنه أن يؤدي
لانقضائه (307 ق.م)، فالمدين لا يستطيع الاستناد إلى هذه الظروف للتهرب أو التحلل
من تنفيذ العقد بحجة الإرهاق، غير أنه إذا جعل الحادث الطارىء تنفيذ الالتزام مرهق
للمدين إرهاق شديد بحيث يهدده بخسارة فادحة بالنظر إلى الصفقة موضوع العقد، فإنه
لا ينقضي الإلتزام بل يرد إلى الحد المعقول.
إن نظرية الظروف
الطارئة تعالج عاقبة حادث استثنائي عام خارج عن المألوف لا يد لأي من المتعاقدين،
ولا دخل للظروف الخاصة بشخص المدن فيها كحرب ترتب انقطاع الواردات أو كارثة أودت
بالمحاصيل، أو صدور قانون جديد، أي أنها تعالج في الحقيقة اختلال التوازن التعاقدي
الاقتصادي الفاحش عند تنفيذ العقد، ولهذا كان أثرها الفعّال هو توزيع تبعة هذا
الحادث الطارىء على عاتق الطرفين.
1-تطور
نظرية الظروف الطارئة:
لم تكن مطبقة عند الرومان وتنبه فقهاء الإسلام إلى أثر الظروف الاقتصادية الصعبة،
ومجافاة هذا الوضع الاستثنائي لقواعد العدالة والإنصاف، مما يترتب عليه عبء شديد
غير عادل على عاتق أحد الأطراف، فقرروا عند توافر شروطها إمكانية إعادة النظر في
شروط الصفقة المعقودة للوصول إلى تسوية عادلة لهذا العقد، وذهبوا لعدم جواز الغبن
في تكوين العقد أو تنفيذه فهو ربا محرم فحرموا الربا وجعلوا الغبن سبب من أسباب
فسخ العقود.
ونظرية الظروف الطارئة
تستند في حقيقتها لنظرية الضرورة La nécessité ونظرية العذر L’excuse وكذا الجوائح Les
calamités، وهي نظريات أصيلة أسسها الفقه الاسلامي.
وقد أكد الفقيه E.Lamber (إدوارد لامبير) في
المؤتمر الدولي للقانون المقارن في لاهاي 1932 أن: "نظرية الضرورة في الفقه
الإسلامي تعبر بصورة أكيدة ومثالية عن فكرة يوجد أساسها في القانون الدولي العام
في نظرية الظروف المتغيرة، وفي القضاء الإداري الفرنسي في نظرية الظروف الطارئة،
وكذا في القضاء الانجليزي فيما أدخله من المرونة على نظرية استحالة تنفيذ الالتزام
تحت ضغط الظروف الاقتصادة التي نشأت بسبب الحرب، وهو ما اقره القضاء الدستوري
الأمريكي في نظرية الحوادث المفاجئة".
كما وردت عديد القواعد
الكلية والمبادىء الفقهية التي تقوم على أسس نظرية الضرورة منها: لا ضرر ولا ضرار،
المشقة تجلب التيسير، الضرر يزال، الضرورات تبيح المحظورات، الضرر الأشد يدفع
بالضرر الأخف، الضرر الخاص لدفع الضرر العام، الأمر إذا ضاق اتسع، درء المفاسد
أولى من جلب المصالح، الضرورات تقدر بقدرها...، وقوله تعالى: " يريد الله بكم
اليسر ولا يريد بكم العسر" (البقرة 185)، وتأثر فقهاء القانون الكنسي بهذه
المبادىء، وذهبوا إلى إقرار نفس الحكم عن طريق إفتراض وجود شرط ضمني في العقود
مقتضاه وجوب تعديل المتعاقد لالتزامه إذا تغيرت الظروف الاقتصادية عند التنفيذ،
بحيث أصبح الالتزام مرهق، بما يحقق العدالة، فاضطراب العناصر أو المعطيات الأصلية
للعقد، بفعل تغير هذه الظروف يترتب عليها أن يفرض على عاتق أحد الأطراف عبء غير
عادل، بإعادة التفاوض على الأقل لإيجاد تسوية عادلة لهذا العقد، وهذا على غرار
نظرية تغير الظروف المعروفة في القانون الدولي العام التي تسمح في المعاهدات
الدولية بتغيير شروطها إذا تغيرت ظروف انعقادها، ولم ينص القانون المدني الفرنسي
1804 على هذه النظرية، وكذا القانون المصري القديم والقضاء الفرنسي القديم العادي
على أساس القوة الملزمة للعقد (م 1134 ق.م.ف).
وقد وجدت النظرية نصير
لها في القضاء الإداري بعد الحرب العالمية الثانية، لضمان حسن سير المرافق وفق
شروط وضوابط معينة أخذ بها مجلس الدولة الفرنسي القضية المشهورة "شركة الغاز
بمدينة بوردو Affaire
Gaz de bordeaux ، إذ كانت الشركة ملزمة بتوريد الغاز بسعر معين، ثم ارتفع الفحم
اللازم لانتاج الغاز بفعل ظروف الحرب الصعبة، فأصبح تنفيذ الالتزام يكلف الشركة
الموردة المذكورة عنت شديد يهددها بخسارة فادحة، فعدّل مجلس الدولة في قرار مبدئي
مشهور العقد بما يتفق مع العدل (قرار في 30 مارس 1916 )، أي مع هذا الارتفاع في
السعر، ثم توالت أحكامه في هذا المعنى بعد ذلك تحت غطاء الاستثناء، وخاصةً في عقود
التوريد، ومقاولات الأشغال العامة وغيرها من العقود المستمرة.
وهو ما سارت عليه
اجتهادات محكمة النقض الفرنسية الحديثة منه: "أن يكون من العدل والعدالة
تعديل العقد الذي اختلفت ظروف إنشائه عن أوضاع تنفيذه، بما يحقق التوازن الاقتصادي
في العقد أثناء تنفيذه أي بإعادة التوازن بين حقوق والتزامات الطرفين المتعاقدين
الذي اختل العقد لسبب لا دخل لأحدهما في حصوله"، ثم أخذت بها التشريعات
الحديثة منها الإيطالي (م 1467 ق.م.إ).
ومن الأفضل في عقود
التجارة الدولية أي العقود الاقتصادية الثقيلة إدراج شرط أو بند Clause
de Hard ship ، حيث يلتزم بموجبه الأطراف بإعادة التفاوض من أجل تعديل العقود
الرابطة بينهم عند وجود الظرف الصعب أي عند حدوث تغيرات في الظروف الاقتصادية أو
المالية، وقد أصبح هذا الشرط مألوفاً ومعتاد في عقود التجارة الدولية، ما أدى
للقول أن هذا الشرط هو "شرط إعادة التوازن العقدي" بمثابة أحد قواعد
التجارة الدولية المسماة Lex mercatoria .
2-شروط
تطبيق نظرية الظروف الطارئة.
وفق المادة 107/03 ق.م
الشروط هي:
أ-أن
يكون العقد متراخي في تنفيذه.
بأن يتم العقد فعلاً
ويكون صحيحاً ومستمر التنفيذ، أي من العقود المتراخية التنفيذ Contrats
à exécution successives سواء كان العقد بطبيعته من عقود
المدة كالإيجار أو العقود المستمرة أو الفورية ذات التنفيذ الدوري أو المؤجل كعقد
التوريد، والعلة في هذا الشرط هو ضرورة وجود فترة زمنية بين إبرام العقد واكتمال
تنفيذه، سواء كانت طويلة أو قصيرة، يتصور خلالها وقوع الحادث الاستثنائي، فإذا
انعقد العقد ونفذ ثم جد الحادث الطارىء بعد التنفيذ فلا أثر لهذا الحادث، أي أنه
إذا كان الالتزام قد نفذ، فلا مجال لتطبيق النظرية والمادة 107/03 ق.م.
*فالنطاق الطبيعي لهذه
النظرية هو العقود المستمرة وكذا العقود الدورية أو المؤجلة متراخية التنفيذ، لغير
خطأ من المدين أو تقصيره، بحيث أصبح تنفيذ الالتزام فيها مرهقاً لأحد المتعاقدين،
لإصلاح ما اختل من التوازن الاقتصادي للعقد، وعليه فلا تنطبق النظرية على العقود
الاحتمالية إذ هي بطبيعتها تعرض المتعاقد للمخاطر، واحتمال الكسب كبير أو الخسارة
فادحة ( م 57/2 ق.م)، ولا تنصرف لعقود القرض لأنه عملاً بالمادة 95 ق.م لا يلزم
المدين في هذا العقد إلا بمقدار عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع هذه
النقود أو انخفاضها أثر، كما لا يجوز تطبيقها على الالتزامات الناشئة عن الفعل
الضار.
ب-أن
يكون الحادث حادث استثنائي عام غير ممكن توقعه.
تشترط المادة 107/3
ق.م أن يطرأ حادث استثنائي عام ومفاجىء لم يكن في الوسع توقعه ولا دفعه أو تحاشيه.
الحادث
الاستثنائي: هو الذي يطرأ بعد
إبرام العقد، بصفة غر متوقعه، بمعنى أن يندر وقوعه، بأن يخرج عن المألوف وفق
المجرى العادي للأمور ما يترتب عنه اختلال التوازن الاقتصادي للعقد في الفترة ما
بين إبرامه وتنفيذه نتيجة هذه الظروف الطارئة غير المتوقعة.
الحادث
العام: المراد به أن يكون شامل لطائفة من الناس،
وألا يكون الحادث الاستثنائي ظرف خاص بالمدين مهما كانت درجة جسامته، ويكفي أن
يصيب فئة من الأشخاص كمربي المواشي، فإفلاس المدين أو مرضه أو إضراب عماله كلها
حوادث خاصة لا تكفي لتطبيق النظرية وعدم الاعتداد بأي ظرف خاص للمدين هو ضمان لعدم
الغش من جانبه بادعائه خلاف الواقع وتقديره متروك لقاضي الموضوع.
ويجب أن يكون الحادث
مفاجىء أي خارج عن المألوف ونادر الوقوع أي ليس في وسع الرجل العادي في ذات الظروف
أن يتوقعه أو يعمل حسابه وقت إبرام العقد، وليس من الممكن دفعه، فإذا كان الحادث
متوقع وقت العقد ينبغي أخذه بالاعتبار عند التعاقد.
والمعيار هنا موضوعي
مجرد بالنسبة للصفقة المعقودة، لا ذاتي بالنسبة لشخص المدين، فإذا كان الحادث
متوقع وقت إبرام العقد أي داخل في حسبان الرجل العادي وفي استطاعة الرجل الفطن
دفعه، فلا يؤخذ به لإعمال هذه النظرية باعتبارها تشكل خروج على مبدأ العقد شريعة
المتعاقدين، وهي مسائل يستقل بتقديرها قضاة الموضوع مادام أقاموا حكمهم على أسباب
صائغة فالعبرة في تقدير الالتزام المرهق بالنظر إليه بحسب ظروف المدين العادي. ويجب
أن تطرأ الظروف بعد إبرام العقد لأن ما طرأ قبل إبرام العقد يفترض علم المتعاقدين
به، كما أنه إذا نفذ العقد في جزء منه ولم ينفذ في جزء، فلا تسري النظرية إلا
بالنسبة للجزء الذي لم ينفذ (اجتهادات ص 434 مصادر الالتزام بلحاج العربي).
ج-أن
يجعل تنفيذ الالتزام مرهق لا مستحيل.
أي أن يؤدي الظرف
الاستثنائي لجعل الالتزام مرهق للمدين أي العنت الشديد بحيث يكون من شأن التنفيذ
أن يلحق بالمدين خسارة فادحة، دون أن يصل الأمر إلى حد استحالة تنفيذه حسب عبارات
المادة 107/03 ق.م، فإذا تبيّن أن التنفيذ أصبح مستحيل فلا مجال للمطالبة بالتهديد
المالي ولا التنفيذ العيني، وإذا كان المدين من تسبب في استحالة التنفيذ بخطئه
يلزم بالتنفيذ عن طريق التعويض ( م 176 ق.م).
وفي هذا يختلف الظرف
الطارىء Imprévisible عن القوة القاهرة،
لأنه إذا كان الجامع بينهما هو صفة المفاجأة إلا أن الفرق بينهما واضح، وهو أن
القوة القاهرة التي لم يكن في الوسع توقعها ولا دفعها تجعل تنفيذ الالتزام مستحيل،
وهذه الاستحالة تؤدي إلى انقضاء الالتزام، ويعفى المدين من تنفيذ الالتزام بتمامه،
ويعفى أي تعويض وتبرأ ذمة المدين منه (127، 307 ق.م)، أما الحادث الاستثنائي
الطارىء فيجعل الالتزام مرهقاً، يستطيع المدين تنفيذه ولكن بخسارة فادحة، لذا يكون
الجزاء فيه هو رد الالتزام إلى الحد المعقول فلا تبرأ ذمة المدين منه.
كذلك فإن حكم الظروف
الطارئة من النظام العام، فيقع باطلاً كل اتفاق على مخالفته (107/03 ق.م) في حين
يجوز الاتفاق على تحمل المدين تبعة القوة القاهرة ( م 127 ق.م).
وليس المقصود بالارهاق
هنا مجرد الصعوبة أو التكاليف التي تلزم للوفاء عادة وإنما هو الإرهاق بالغ الشدة،
الذي يجاوز الخسارة العادية أو المألوفة في التعامل وقت التعاقد، وعليه يقدر
الإرهاق في هذا الشأن بمعيار موضوعي لا شخصي، بالنظر إلى الصفقة موضوع العقد، لا
دخل للظروف الخاصة بالمدين فيه، ولا يأخذ القاضي في اعتباره للتوصل إلى هذا
التحديد العناصر الذاتية اللصيقة بشخص المتعاقد إذ يجب تقديره بالنظر إلى الصفقة التي
أبرم العقد بشأنها، ومدى الإرهاق الذي يحيط بتنفيذ الالتزام، بأن تكون الظروف
الاستثنائية عامة شاملة لطائفة من الناس، فإذا خلص لعدم إمكان دفع الحادث الطارىء
وفق مقدرة الرجل العادي يمكن إعمال النظرية.
تقاس الخسارة الفادحة
بقيمة هذه الصفقة فقط، دون أن يدخل في الاعتبار الظروف الخاصة المرتبطة بالمدين،
فلا ينظر لثروته أو مدى تحمله للخسارة ولا أثر للكسب الذي يجنيه ويستوي المدين
الغني والعادي، والحريص وغير الحريص، وهي مسألة مرتبطة بظروف كل حالة على حدا
متروكة لتقدير قاضي الموضوع.
فشرط الخسارة الذي
أشار له المشرع في المادة 107/03 هو أمر يخالطه الواقع، يتعلق باعتبارات موضوعية
خاصة بالصفقة محل الإلتزام، فلو أمكن تفادي الظرف ببذل جهد معقول لما جاز للمدين
التمسك بالنظرية لخطئه، كما أن الخسارة المألوفة لا ترهق المدين لأن المعاملات
المالية لا تخلو عادة من الكسب والخسارة.
3-حكم
الظروف الطارئة.
متى توافرت الشروط
الثلاثة كان للقاضي تبعاً للظروف الحاصلة وبعد الموازنة بين حقوق والتزامات
الأطراف، أن يرد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول وفق عبارة المادة 107/03 ق.م،
فدور القاضي لا يصل إلى حد إزالة الإرهاق كلية بل يرده للحد المعقول تاركاً للدائن
حق القبول أو الفسخ.
فله أن يعدل العقد La
révision في حدود مهمته المألوفة التي أجازها القانون وهي التفسير، بل
يتجاوز ذلك إلى تعديله، كما له أن يختار بين أكثر من وسيلة للتعديل، إذ المهم أن
يعيد التوازن الاقتصادي للعقد، ويوزع تبعة الحادث الطارىء على عاتق الطرفين.
ويكون للقاضي وفق
سلطته الخيرة بين أمور ثلاثة:
أ-أن
ينقص التزام المدين إلى الحد المعقول: الذي يجعله غير مرهق بأن يتحمل المدين الخسارة المألوفة
التي كان يمكن توقعها عادة وقت التعاقد فيعفيه من الخسارة الفادحة.
ب-أن
يزيد من التزام الدائن:
ما يؤدي لتوزيع الخسارة غير المألوفة بين المتعاقدين، مراعاة للموازنة بين مصلحة
كل منهما.
ج-أن
يأمر بوقف تنفيذ العقد مؤقتاً:
حتى تنتهي الظروف الطارئة إذا تبين أن الحادث الطارىء مؤقت أو أن آثاره مؤقتة
ستزول في وقت قصير (281/02 ق.م).
فقد يرى القاضي إنقاص
مدى التزام المدين وفي هذه الحالة يلتزم هذا الأخير بالالتزام الذي حدده القاضي
فقط، كأن ينقص الثمن الذي أصبح مرهق للمشتري أو يمد له أجل الدفع، أو ينقص عنه
الفوائد؛
وقد يرى القاضي زيادة
الالتزام المقابل للالتزام المرهق، فيوزع الزيادة المألوفة على عاتق طرفي العقد
وفقاً لما يراه محققاً للعدالة وحسن النية، بعد إجراء الموازنة بين مصلحة كل
منهما، أي الموازنة الاقتصادية بين حقوق والتزامات الطرفين.
ويجوز للقاضي أن يأمر
بوقف تنفيذ العقد إذا كان الحادث مؤقتاً، وتنص المادة 281/02 ق.م أنه: " يجوز
للقضاة نظراً لمركز المدين ومراعاة للحالة الاقتصادية أن يمنحوا آجالا ملائمة
للظروف، دون أن تتجاوز هذه الآجال مدة سنةن وأن يوقفوا التنفيذ مع إبقاء جميع
الأمور على حالها" (119/01 و210 ق.م).
*والقاضي لا يحكم إلا
بالنسبة للحاضر أي إذا زال الظرف بعد الحكم تعين استرجاع العقد لحالته الأولى، أو
لقوته الملزمة الكاملة كما كانت في الأصل، فإذا ما زال الحادث الاستثنائي عاد
المتعاقدان إلى حكم العقد الذي وافقوا عليه، أي وجب الحكم بتنفيذ الباقي من العقد
كما كان قبل تعديله.
ولا يمكن للقاضي فسخ
العقد (راجع ص 438).
فلا ينبغي للقاضي وفق
الجزاء الواجب إعماله أن يقضي بفسخ العقد عند توافر الظرف الطارىء فيلقي عبء
الحادث على عاتق الدائن بدل المدين بل يجب عليه كما ورد في المادة 107/03 رد
الالتزام المرهق إلى الحد المعقول إلى الحد الذي يتطلبه القانون، فالالتزام المرهق
يبقى ولا ينقضي بالحادث كما ينقضي بالقوة القاهرة، ولكن يرد إلى الحد المعقول،
وعليه تم توزيع العبء على طرفي العقد، بتقسيم الخسارة غير المألوفة على الدائن
والمدين، أي بمعنى إقامة التوازن الذي تهدف النظرية تحقيقه، فإن الخيار في زيادة
السعر وفسخ العقد يكون للدائن وليس للمدين، وهو ما استقر عليه قضاء المحكمة
العليا.
وحكم المادة 107/03
رغم مرونته هو من النظام العام فيبطل كل اتفاق يقضي باستبعاده، إذ أراد المشرع
تفادي تحكم الطرف القوي في الطرف الضعيف، لكن الاتفاق الذي يلي وقوع الظرف الطارىء
صحيح، فهو لا يحاط بشبهة الضغط على المدين المرهق، وهذا الاتفاق لا يخول القاضي
تطبيق النظرية من تلقاء نفسه بل يجب أن يتمسك بها صاحب المصلحة.
وفي الفقه الاسلامي
تمنح نظرة الميسرة ( م 210، 281/02 ق.م)، "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى
ميسرة" (البقرة 280).
تطبيقات
تشريعية للنظرية.
زيادة على المادة
107/03 التي تقرر المبدأ العام نجد حالات أخرى: عقد الايجار (469 مكرر1، 469 مكرر2
ق.م)، وحق الارتفاق ( 881 ق.م)، وعقد المقاولة (561 ق.م)، وهي تخضع للأحكام الخاصة
في شأنها تختلف عن النظرية العامة في المادة 107 ق.م.
*فلسفة القانون المدني
بخصوص نظرية العقد، تقوم على أساس تحقيق التوازن الاقتصادي بين مصلحة طرفي العلاقة
العقدية وفقاً لمبادىء العدالة والانصاف وحسن النية ومقتضيات فكرة النظام العام،
فالعقد شريعة المتعاقدين غير أن قوته محدودة بضرورة خدمة التوازن التعاقدي
واستقرار المعاملات، انطلاقاً من وظيفته الاجتماعية والاقتصادية وسلطة القاضي في
هذا الخصوص لا يحدها إلا القانون في ترشيد العقد وتعديله للحد المعقول الذي يخدم
الفرد والمجتمع ( ص 440).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق